هل للموسيقى لهجة؟

francis-picabia-intonation-musicale-samir-becha

إن كانت اللهجة من مباحث علم اللسانيّات الذي ينظر في تصنيف خصوصيّات الألسن داخل الثقافة وخارجها بعد مقارنة بعضها البعض حسب قواعد تضبطها النظريّة اللسانيّة اعتمادا على وظائف اللغة وتلازمها مع الفكر ومن خلال تحليل علاقة القول بالفعل والبحث عمّا هو علاميّ ودلاليّ ورمزيّ، فإنّ البحوث الموسيقولوجيّة ورغم اشتغالها على دراسة العناصر الكليّة للموسيقى منذ أواخر القرن العشرين1 بفعل التأثيرات اللسانيّة التوليديّة، فإنّها لم تخصّص الحيز المعرفيّ الكافي من اهتماماتها إلى دراسة الاختلافات اللهجويّة في الممارسات الموسيقيّة بين الثقافات. فعلى مستوى المفهوم ونشأة الكلمة، تطرح المفردة بشكل عام قضيّة الاختلاف، وقد ساد استعمالها لدى المتخصّصين والعامّة للدلالة على التباينات اللسانيّة بين المجتمعات والثقافات فيما يتلفّظون به وينطقون كلاميّا، غير أنّها سرعان ما تمّ إقحامها في قاموس المفردات الموسيقيّة والموسيقولوجيّة للدلالة على الخصوصيّات الموسيقيّة للمجموعات الثقافيّة. لقد تمّت الدعوة سابقا2 إلى تأسيس مجال “موسيقولوجيا الاختلاف اللهجوي” وكان الغرض من ذلك هو بعث مشروع اختصاص يتوجّب التفكير في أغراضه العلميّة والبحث في مدى نفعيّته ضمن مقاربات الموسيقولوجيا الشاملة، كل ذلك من أجل أن تكون الإشكاليّات والفرضيّات المطروحة حول مسألة اللهجة الموسيقيّة أحد المسبّبات لإيجاد تصوّر علميّ تكون سنداته “السؤال وحجة الإجابة عن السؤال”.

فإن كان الحديث عن الموسيقى من حيث أنّها سماع موجّه إلى جميع الفئات باختلاف انتماءاتهم الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فإنّ قضيّة اللهجة الموسيقيّة المتمثلة في توصيف طبيعة اختلاف العناصر الموسيقيّة، هي من مشمولات المتخصّصين في صناعة الموسيقى والباحثين في الموسيقولوجيا بمختلف تفرعات مجالاتها. وإن كانت الهويّة تطرح قضيّة الاختلاف من أجل معرفة الذات مقارنة بالآخر بنوع من الحذر والتيقّظ، فإنّ اللهجة، وعلى عكس ذلك، تبحث عن اختلافات بشكل أفقيّ دون أن تتّخذ من ذلك مطيّة للحديث عن الهويّة وما يتبعها أحيانا من سجالات عنيفة وصراعات عموديّة أغراضها البحث عن مواقع الانتماء ثمّ التموقع داخل الكلّ الثقافي.  فعلى المستوى النظري والمنهجي، فبعد أن اهتم العالم خلال القرن الماضي بالبحث عن قوانين تطوّر الإنسان والعلاقة التي تربط بين البشر وطبيعة الأصناف التي تنتمي إليهم والتمييز بين أنظمة وأنساق حياتهم العامّة في تعاملهم مع الطقوس الدينيّة في أفعالهم الاجتماعيّة والثقافيّة والتي من خلالها يمكن تعيين الخصوصيّات المشتركة والمختلفة بينها، حان الوقت الآن للتباحث في الأفكار واللغات والفنون ومقاصد المفردات ومفاهيمها الموسيقيّة التي تدلّ على هذه الأصناف من حيث اختلاف تعبيراتها.

3 thoughts on “هل للموسيقى لهجة؟

  1. شكرا استاذ سمير على المقالة، هل تقصد اذن ان مفهوم اللهجة الموسيقية يطابق إلى حد ما مفهوم الهوية الموسيقية باعتبارهما يهتمان بمسالة التمايز والاختلاف الحاصل بين الممارسات الموسيقية للجماعات الاجتماعية؟ والاختلاف بينهما يكمن فقط في الغاية التي يود الباحث او الموسيقي ادراكها؟

    1. نعم هو مطابق إلى حدّ ما، غير أن اللهجة تهتمّ فقط بتحديد الاختلافات الموسيقيّة دون الذهاب إلى حدود مناقشة التمايز والتفاضل بينها (وهي قراءة أفقيّة)، في حين أن الهويّة بإمكانها أن تتجاوز ذلك الطرح لِتدخل في مجالات ومقاربات أخرى لها علاقة بالتثاقف والهيمنة الثقافيّة وبالانتماء الجغرافي المُمركز لتصل أحيانا إلى حالة الخوف من ردّ فعل الحملات الاستعماريّة السالبة والمشوّهة لبعض المظاهر التراثيّة الموسيقيّة التابعة لثقافات لها خصوصيّات محليّة تملك من المشروعيّة التاريخيّة والإنسانيّة لكي تدافع عن كنهها وانتمائها ومحليّتها (هي علاقة عموديّة تبدأ بمعارضات فكرية قد تتحوّل إلى صراعات وصدامات حقيقيّة)… الشيء الذي لا يمكن في تقديرنا أن يتحقق مع المقاربة الموسيقيّة اللهجويّة القائمة على قراءة الاختلاف دون غيره.
      مع الشكر على التفاعل زياد.

      1. شكرا استاذ سمير على الرد وعلى الإضافة والدقة في التفسير. وددت استاذي القدير ان اعرف رايكم بخصوص نظرتي المتواضعة لهذه المسألة: الا يمكن ان نعتبر ان البحث في اللهجة الموسيقية الخاصة بجماعة ما هو اساسا بحث في العناصر الموسيقية البحتة التي تميز هذه الجماعة عن غيرها من الجماعات؛ اما البحث في الهوية الموسيقية لنفس الجماعة هو بحث في مجمل العناصر الموسيقية وغير الموسيقية التي يمكن ان تميز الممارسة الموسيقية للجماعة عن غيرها اي يمكن ان يتصل ذلك مثلا بلغة ولهجة النص الشعري واساليب النطق والطقوس المصاحبة للفعل الموسيقي الى غير ذلك

اترك رداً على سيف الزيدي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *