هذا الكتاب يدعو إلى الموسيقولوجيا من خلال حوار مباشر لمجمل الدراسات التي بحثت في الموسيقات العربيّة عموما والموسيقات التونسيّة بوجه خاصّ، وقد سعى مؤلفه الدكتور سمير بشة إلى مساءلتها ومناقشتها إبستيمولوجيّا، ثمّ تقديم ما جاء بعدها من تناولات بحثيّة تشكّلت في إطار مؤسّسات متخصّصة حاولت أن تدفع بالبحث الموسيقولوجي في تونس إلى إنتاج مقاربات وإشكاليّات في غاية من التخصّص والاحترافيّة. كما تؤكّد هذه الدراسة على أنّ الأفكار المنتقلة من خارج الثقافة الموسيقيّة المحليّة، وعلى أهميّتها، غير كافية أحيانا لتقديم المعنى الحقيقي للفعل الموسيقيّ، خاصّة إذا كان مجال أبحاثها غير مجال الاختصاص الموسيقولوجيّ. مع ذلك، لا ينكر صاحب الكتاب مساهماتها الأولى التي كانت بمثابة نقطة الضوء في بروز أولى مرتكزات هذا المجال المعرفي وآليّاته والذي اصطلح واتّفق على تسميته منذ قرنين تقريبا بــ”الموسيقولوجيا”.
يتناول الكتاب أيضا البدايات النظريّة التي بحثت في التعابير الموسيقيّة التونسيّة وما استجدّ حولها من تساؤلات ومقاربات وما تبعها من صعوبات فكريّة تريد أن تشرح وتتلمّس خصوصيّات الممارسة الموسيقولوجيّة من حيث أنّها منهج بحث وفي الوقت نفسه خطاب معرفيّ، انطلاقا من مقاربة تاريخيّة تنطلق من العام إلى الخاصّ، من الكليّ إلى الجزئي ومن الذاتي إلى الموضوعي. هي صعوبات كانت في أشدّها خاصّة مع محاولات القرن التاسع عشر حين اهتمّ أغلب رواده بتاريخ الموسيقى، المقاربة الأكثر رواجا والتباسا في تلك المرحلة. كما يستعرض البحث نتائج الأشغال التي اهتمّت بدراسة الموسيقى في تونس، وقد حرص الدكتور سمير بشة على انتقاء أكثر ما أمكن من الكتابات والدراسات حولها بداية من الإنتاج العالمي وصولا إلى الحصيلة التونسيّة التي تُمثّل مادّة التفكير في هذا العمل والغرض الأساسي من هذه الدراسة.
كما تناول التحوّلات الفكريّة والمعرفيّة والدراسات النقديّة التي جعلت من الأبحاث المهتمّة بالموسيقى تنتقل تدريجيّا من المقاربة التاريخيّة المهتمّة بتسلسل الأحداث ودراسة الشخصيّات الموسيقيّة وتقديم سيرهم الذاتيّة وتاريخ القوالب الموسيقيّة…، إلى المقاربة التاريخيّة الموسيقولوجيّة التي تتّخذ من الموسيقى مركزا أساسيّا للتفكير ومنطلقا أصليّا للنقاش والتحليل والتفسير فتستعين بمناهج التحليل التاريخي التي وضعها “قيدو أدلار” في مقاله التأسيسي سنة 1885.
كما تقدّم الدراسة إطلالات حول أهمّ ما أنجز من أبحاث تونسيّة تناولت التعبيرات الموسيقيّة المحليّة فاختار الدكتور سمير بشة الأهمّ منها كالتي تناولها الصادق الرزقي انطلاقا من كتابه “الأغاني التونسيّة” الذي عاين فيه الأجواق التونسيّة وأنواع الغناء في المناسبات الاحتفاليّة، إلى جانب أبحاث الكاتب حسن حسني عبد الوهاب انطلاقا من كتابه “ورقات” الذي حاول من خلاله تقديم بعض المناقشات والأفكار حول نظرته إلى مجمل الموسيقات التونسيّة باختلاف أنواعها الشعبيّة والبدويّة والطرقيّة… وصولا إلى ما قدّمه المنوبي السنوسي وما اشتغل عليه من أبحاث امتدّت منذ اتّصاله بــ”البارون ديرلنجاي” سنة 1922 إلى آخر يوم في حياته، فتحدّث عن بداية الوعي بالمنظومة الموسيقيّة العربيّة انطلاقا من دراساته وتحقيقاته للمخطوطات العربيّة وما اقترحه من كتابات حول الصوت الموسيقي واهتزازاته ومسافات السلّم العربي ودرجاته وما تناوله من أبحاث في الموسيقات الشعبيّة ودراسات مستفيضة لطريقة صنعها والأرصدة التابعة لها. كما حاول صاحب الكتاب استكشاف ما اقترحه صالح المهدي من إنتاجات بحثيّة نظريّة والتي كان معظمها مقدّمة لأغراض تعليميّة تحتوي على معلومات وبرامج كتبت لتُعتمد كمناهج موسيقيّة وتربويّة لدى المؤسّسات التابعة لوزارة التربية، وأخرى كبرامج ووسائل تعليميّة خاصّة بالمعاهد الموسيقيّة التابعة لوزارة الثقافة، وقد قام من خلالها بمناقشة أبعادها المنهجيّة وحدود مقارباتها الموسيقيّة وخاصّة المتعلّقة منها بمنظومة الموسيقى المقاميّة.
كما عرض صاحب الكتاب الأشغال البحثيّة التي شكّلت البوادر الأولى الممهّدة لاكتشاف الاختصاص الموسيقولوجي في تونس، فاستعرض مجمل الأعمال المنجزة بمؤسّسة المعهد العالي للموسيقي بتونس الذي تأسّس سنة 1982 وعمل على تحديد البعض من توجّهاتها واختياراتها ومقارباتها وآليّاتها في العمل، هذا إلى جانب ما أورده من قائمة لرسائل الدكتوراه التي أنجزت في تونس وفي فرنسا التي حرص على تحديد توجّهاتها المعرفيّة، إضافة إلى بعض الأبحاث التي أنجزت بشكل فردي والتي رتّبها في جداول وبيّن أغراضها المعرفيّة بالخصوص. وانتقل في الأخير إلى معاينة الأشغال التي قدّمها محمود قطاط والدّور الذي قام به في بعث المعهد العالي للموسيقى بتونس والتعريف بالاختصاص الموسيقولوجي ومختلف تفرّعاته النظريّة والتطبيقيّة، فقدّم ما أمكن تناوله في موضوع تاريخ الموسيقى العربيّة وما يخصّ منظومتها المقاميّة والإيقاعيّة وما توفّر في بحوثه من مراجع ومصادر عدّدها وقدّمها انطلاقا من كتبه ومقالاته العديدة باللّغة العربيّة والمترجمة إلى الفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة والإسبانيّة وغيرها من اللّغات.
فالأهمّ في نظر الكاتب هو الشروع في تثبيت الشروط المنطقيّة والمنهجيّة والتقنية في الخطاب الموسيقولوجيّ والتأكيد على ضرورة انضباطها فكريّا وذلك احترامًا للالتزامات المعنويّة وإنجازًا لضوابط تحليليّة جديدة واضحة ودقيقة تكون في متناول جميع القرّاء، المتخصّصين وغير المتخصّصين.
تؤكّد هذه الدراسة كذلك على دور المؤسّسات في تكوّن المعرفة الموسيقولوجيّة وقد تعرّض صاحبها إلى أهميّة تأسيس المعهد العالي للموسيقى سنة 1982 الذي كان يتطلّع إلى بناء مسار علمي تتنوّع فيه الاختصاصات والمواد والأهداف والمناهج. وبالرغم من التركيز على تقديم تلك المواد المدرّسة على أنّها من فروع العلوم الموسيقيّة، فإنّ مقاصدها كانت بالأساس موسيقولوجيّة تتوق تدريجيّا إلى التعريف بالاختصاص وتدعيمه ومأسسته. وقد شهد المعهد الكثير من الأبحاث التي أنجزها الطلبة في إطار إعداد رسائل التخرّج في مرحلة الأستاذيّة ثمّ الماجستير والدكتوراه، هذا بالإضافة إلى الإنتاجات العلميّة الفرديّة. وكانت معظم الأبحاث تُنجز تحت إطار مؤسّسات رسميّة من وحدات ومراكز ومخابر بحث وجمعيّات في الاختصاص الموسيقولوجي بشكل عام مع بعض الاختلافات أحيانا في المسارات والمحاور والأهداف. لقد بيّنت الإحصائيّات الأوليّة أنّ معظم تلك الأبحاث كانت مهتمّة بدراسة الموسيقات التونسيّة مع دراسات أخرى تناولت الموسيقات العربيّة والغربيّة وأخرى لها علاقة بموسيقات عالميّة متنوّعة.
في خضمّ ذلك، تُشَكّل أبحاث محمود قطاط القسم الأكبر من الإنتاجات والأبحاث التونسيّة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. لقد اهتمّ محمود قطاط بدراسة الموسيقى العربيّة عموما والموسيقات المغاربيّة التقليديّة على وجه الخصوص منها موسيقى “الآلة” و”الصنعة” و”المالوف” وقد نَشر فيها العديد من الكتب والمقالات باللّغتين العربيّة والفرنسيّة والتي تُرجم بعضها إلى لغات عدّة منها الإنجليزيّة والإسبانيّة ولغات أخرى، كما كان يوجّه اهتماماته أحيانا إلى بعض الموسيقات الإيرانيّة والأوزباكستانيّة والتركيّة وغيرها من الموسيقات التي تشترك في تعابيرها وفي أنظمتها مع الموسيقات العربيّة.
لقد بيّنت هذه الدراسة أنّ المبحث التاريخي للموسيقى قد شهد العديد من نقاط الاشتراك والاختلاف في ما تمّ اقتراحه من دراسات أوّليّة للموسيقى العربيّة عموما والموسيقى في تونس بوجه خاصّ. غير أنّ السؤال الإبستيمولوجي يبقى المنفذ الوحيد المحدّد للاختلاف داخل الاختصاص الواحد وذلك بقطع النظر عن الاشتراك في المحاور والنظريّات والمقاربات التي تدرس تلك الموسيقات. الأوّل هو حقل الموسيقولوجيا الخاصّ ببلدان العالم الغربي والثاني هو حقل الموسيقولوجيا الخاصّ ببلدان العالم العربيّ التي انتقل إليها عبر أبحاث وكتابات. لقد تركّزت في البدايات قناعة راسخة لدى الجميع بأنّ النظريّة القادمة من الغرب كفيلة بحلّ بعض المسائل والإشكاليّات التي تبحث في الغموض الموسيقي، وفي الحقيقة لولا هذه القناعة الراسخة، لما كان لهذه النتائج المعرفيّة أن تتحقّق سواء لدى الغرب أو لدى الباحثين العرب بما فيهم التونسيّين. يكاد لا يجادل أحد بأنّ الحقل الموسيقولوجيّ هو حقل مستقلّ داخل مجالات العلوم الإنسانيّة، كما أنّه يملك وجودا مستقلاّ لدى الباحث الموسيقولوجيّ في حدّ ذاته الذي يدرس الموضوع الموسيقي، ليس كواقع، بل من أجل تقديم نتائج معرفيّة عن واقع ذلك الموضوع في إطار سياقات ملازمة للحصيلة المعرفيّة والأسئلة الإبستيمولوجيّة الدقيقة التي تمكّن من تحليل ذلك الواقع.
لم يكن غرض الدكتور سمير بشة في هذه الدراسة نقد أبحاث الأوّلين والظفر بالمقاربات الموسيقولوجيّة المستحدثة والانتصار لها، بل كان غرضه متّجها نحو عرض مجمل الدراسات التي بحثت في الموسيقى العربيّة عموما والموسيقى في تونس منذ أواخر القرن التاسع عشر بوجه خاصّ وذلك من أجل مساءلتها ومناقشتها إبستيمولوجيّا، ثمّ تقديم ما جاء بعدها من تناولات بحثيّة تشكّلت في إطار مؤسّسات متخصّصة حاولت أن تدفع بالبحث الموسيقولوجي في تونس إلى إنتاج مقاربات وإشكاليّات في غاية من التخصّص والاحترافيّة.