1. التثاقف
لقد أجمعت الكثير من الكتابات على أن مشكلة التثاقف هي من المشكلات التي ظهرت مع ظاهرة الاستعمار والتي عرفتها دول العالم الثالث، وظهور ما يسمى بالحركات التحررية التي حاولت التصدي للمستعمر ومقاومته بكل الوسائل المتوفرة لديها. ولكن السؤال الذي يطرح هو أي معنى للكلمة؟
تأتي كلمة التثاقف في السياق الثقافي الذي يشمل العلاقة التي تجمع بين ثقافة “السيد” وثقافة “العبد” وهي أيضا العلاقة التي تجمع بين ثقافة الإنسان المُسْتَعْمِر وثقافة الإنسان المُسْتَعْمَر، أي في نهاية الأمر، هي العلاقة التي تربط بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر. ولتكريس تلك العلاقة العمودية بين الطرفين وبالاستعانة بالقوى الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الحديثة، فكر الإنسان الغربي المستعمر في مسألة تنميط وتكييف ثقافة الإنسان العربي، على ثقافته تحت فكرة التثاقف.
تاريخيا، اقترحت هذه الكلمة سنة 1880 من قبل الأنثروبولوجيين الأمريكيين واتخذت عدة تفاسير ومفاهيم من طرف جميع الاختصاصات. فالبسيكولوجيا الاجتماعية ترى ” أنها تمثل عملية التعلم التي يتلقاها الطفل من الثقافة الإثنية التي حوله أو من الوسط الذي هو فيه1. في حين يرى “روجي باستيد”(Roger Bastide) أن هذا التعريف يطلق بدرجة أصح على التنشئة الثقافية (Enculturation) أو الاجتماعية2 (Socialisation). إلا أن هذا التعريف المقترح في سنة 1935 لم يعط في اعتباره في ذلك الظرف وسائل الاتصال الحديثة الافتراضية التي تسهل التعامل المباشر بين الشعوب كالتلفزة والأقمار الصناعية والإنترنت والهواتف النقالة التي هي أكثر خطورة من الاستعمار الجغرافي. فبهذه الوسائل تكون ربما قد استعمرت كل العالم عبر إيديولوجيا الصورة وما تمثله من سلطة على الفرد والمجموعة حتى ولو كانت كاذبة، إضافة إلى مقاربة الجغرافية السياسية (Géopolitique) الحديثة، التي تعطي في اعتبارها التبعية الاقتصادية والسياسية. كل هذه الوسائل التي يمكن أن تجعل شخصا متصلا بثقافته الأصلية وهو في المهجر على سبيل المثال.
2. المثاقفة
عندما نتحدث عن المثاقفة، تحيلنا الكلمة دائما إلى عدة اتجاهات مختلفة؛ أنها أداة اتصال وأداة للتداخل العلاقاتي والتبادل المعرفي وتشير إلى المفهوم الشامل لكلمة الثقافة أي “معرفة الأشكال والمعايير الحياتية التي يمتاز بها الآخرون؛ أشخاص أو مجموعات أو مجتمعات في علاقتهم مع الآخر ومعرفة العلاقات المشتركة بين ثقافة ما وثقافة أخرى”3. وهي ما يولد ويتأسس من خلال احتكاك بين مجموعتين أو أكثر؛ أي “أنها تشير إلى ثقافة في حالة ولادة”4. وإن كان التثاقف يحمل في طياته الرغبة في محو الآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية، فإن المثاقفة تقوم على الاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب وتتواصل فيما بينها.
وخلافا للتثاقف، فإن المثاقفة لا يمكن لها أن تتحقق في صورة تدخل أطراف سياسية أو تواجد مقاربات إيديولوجية، غير أن المساعي لتحقيق ذلك لا تبشر بنتائج إيجابية في الغرض. هذا، وقد وصل البعض وخاصة “جاك دمرغن” (Jacques Demorgon) إلى الحديث أو تأسيس نظرية إيببستمولوجية المثاقفة5 ويعني بذلك البحث عن الأخطاء العلمية والمنهجية لنظرية المثاقفة. وهي(أي المثاقفة) ليس ما ينتج من اختلاف الثقافات المكتسبة، بل كذلك ما ينتج داخل الثقافات التي في طور التكون. فالرهان على المثاقفة هو رهان على المجتمع وطريقة عيشه، وهو اختيار اجتماعي ثقافي (Socioculturel)، يجعل من الإنسان في وضعية حياتية بين الفردية والتعددية. والأهم هو ليس معرفة الاختلاف بين الثقافات أو قبولها بل الأهم هو معايشتها معايشة حقيقية. ولكن لكل رهان ثمنه، فيمكن أن نجد أنفسنا بعيدين شيئا فشيئا عن الأشياء التي تعودنا عليها منذ طفولتنا، ونكون بذلك قد تواصلنا مع الآخر وانفصلنا عن أنفسنا6.
فالدراسات المنجزة حول المثاقفة من قبل الباحثين في مختلف الاختصاصات كعلماء التاريخ وعلماء الاجتماع ومهندسين وفلاسفة وأنثروبولوجيين، ” أفضت إلى نتائج متباعدة ومتناقضة أحيانا، والسبب في ذلك هو الانطلاق من نقاط مختلفة”7، إلى جانب تشعب الوضعيات وتسرع التطورات والتحولات وتنوع الإشكاليات وقلة النتائج. لذلك جاءت تعاريف المثاقفة من قبل “جاك ديمورقون”(Jacques Demorgon) بنوع من التناقض بين مفهومي المثاقفة والتثاقف. فهو يقسمها كما يلي :
- المثاقفة المحلية في التعايش الإنساني وفي المجتمع الصغير (أي الثقافة في مفهومها الضيق).
- المثاقفة المقارنة بالخارج المجسدة في اكتشاف الآخر. ولسائل أن يسأل هنا، هل أن مجرد الاكتشاف يبرهن عن المثاقفة؟
- المثاقفة المُورّطة في المشاركة مع الآخر، وخاصة في القضايا السياسية. فهذا يعبر عن خلط بين مفهوم التثاقف والمثاقفة. فهذا التفسير يدل عن شكل تثاقفي نظرا للتبعية السياسية التي تولد هي الأخرى التبعية الاقتصادية.
- المثاقفة المرتبطة بالمفاهيم والمقاربات الفكرية. وهذا لا يمكن أن نعتبره مثاقفة بما أن المقاربات الفكرية هي الأخرى تتضمن الخلفية السياسية.
- المثاقفة المتعلقة بالبحث عن الإطار الحقيقي كوحدوية أو ثنائية أو ثلاثية الموطن أو تعددية الموطن8. هنا يمكن أن تطرح قضية ما بعد الوطنية في خضم وسائل الاتصال الحديثة.
فالحوار الثقافي ليس غاية في حد ذاته، ولكنه سعي نحو إمكانية التوافق حول قيم مشتركة. فلا جدوى من الحوار إذا ما تمسك كل طرف بخصوصيته المطلقة، وإنما يكون الحوار منتجا حين تتوافق أطرافه على قيم مشتركة. وهذا غير ممكن إذا كان كل طرف ثقافي ينغلق على ذاته باسم خصوصية مكتفية بذاتها، كحال الأصوليين الذي يختزلون الحضارة العربية الإسلامية إلى دين. إلا أنه، وفي هذا السياق، علينا أن لا نخلط بين ” الإسلام والعروبة(Arabité)، إذ نجد عرب إسرائيل مثل يهود تونس والمغرب (…) من جهة، ومسلمي ماليزيا والهند والصين وباكستان وبعض بلد روسيا الشرقية من جهة أخرى”9.
لذا، نرى أن حوار الثقافات ليس مجرد مناظرة أو مقارنة بين ثقافات في الأفكار والقيم والعقائد، بل هو تفاعل بينها. وهذا لا يأتي لثقافتنا إلا إذا كانت قادرة على حوار الآخر كثقافة تفرض حضورها وجدواها بالنسبة إليه، ولا يكون ذلك ممكنا لمجرد اقتناعنا بعراقة ثقافتنا، بل لابد وأن تسندها قوة اقتصادية وسياسية تعطي للثقافة قوتها وقيمتها التبادلية في سوق الثقافات المتقدمة. ثم إن تحديث ثقافتنا يقتضي وجود قاعدة اجتماعية واسعة مندمجة في الحداثة. أما إذا ظلت هذه القاعدة خارجها فإن الذي يحصل هو الارتداد الواسع إلى ثقافة محافظة، وإحياء مظاهرها الدينية المتشددة التي تصوغ منها هوية منغلقة إقصائية. أما المتسبب في ذلك، هو “عدم التأقلم والتناغم مع تلك الحداثة الغربية، وما تدعو إليه من حريات وحقوق فردية واتجاه علمي يرتكز على المصلحة كأساس للتعامل البشري”10. تلك العقلية التي ترى في الحداثة سوى اعتداء على هويتها، فلا تسعى إلى مد الجسور مع الثقافات الأخرى. وبناء على ما تقدم، بدا واضحا أن ” اقتتال الهويات الثقافية اليوم معناه فشل التعددية الثقافية في التعايش والتوافق على قيم جامعة وعلى الولاء لدولة وطنية متعاقد على مؤسساتها”11.
هذا ويقترح “باري” (J. Berry) أربعة نتائج ممكنة للحوار الثقافي :
- الذوبان والانصهار (Assimilation culturelle) : التخلي عن الهوية الثقافية الأصلية وتبني الثقافة المهيمنة.
- التهميش الثقافي (Marginalisation culturelle) : التخلي عن الثقافة الأصلية دون الأخذ من الثقافة المهيمنة.
- الانفصال الثقافي (Séparation culturelle) : التمسك بالهوية الثقافية الأصلية وترك الثقافة المهيمنة.
- الاندماج الثقافي (Intégration culturelle) : التمسك بالثقافة الأصلية والتعامل مع الثقافة المهيمنة.12