التراث، هي مفردة مثبّتة في كلّ قواميس العالم، أوجدنا لها معاني وتفاسير بما يخدم مصالحنا، فشيّأناها وحوّلناها إلى مجسّدات، فأنتجنا بموجبها أشكالا وصورا وتراكيبَ اتّفقنا في شأنها وسلّمنا بأمرها فأصبحنا نتحدّث عنها وباسمها لنقول “نحن التراث”. ولئن كانت الأغلبيّة في مجال البحث الموسيقي لا ترى ضرورةً في مجادلةَ ما جاء في تلك القواميس والموسوعات من تعاريف وتفاسير بدعوى المحافظة على التراث الاصطلاحي واللغوي، فإنّه بات من الضروريّ اليوم في اعتقادنا إقامة الجدل والتأويل في “قضيّة” التراث لعلّنا نظفر بمداخل فكريّة جديدة تكون معبّرة عمّا نالنا من مقترحات موسيقيّة معاصرة. لا نريد أن يكون الخطاب الذي يدعو إلى بالتراث ذا مصلحة ذاتية فيحصل من خلاله التكسب من التراث باسم التراث، كما أننا لا نريد أن يكون الخطاب الذي يدعو إلى الحداثة ذا مصلحة ذاتية فيكون من خلاله التكسب من الحداثة باسم الحداثة. إن الأهم ليس رفض الآخر أو التقيد به موسيقيّا، بل الأهمّ هو الابتعاد عن الحلول السهلة والتخلص من كل العقد والمركبات التي تربطنا بالتراث الموسيقي وبالماضي المجيد المفعم بإيديولوجيا الفكر الشوفيني. فحديثنا المبالغ فيه عن التراث الموسيقي في طور التحوّلات التي يشهدها العالم في زمننا الحاضر، يؤدي بنا أحيانا إلى حالة مرضيّة متلبّسة بعقدتي الهويّة والغيريّة وغرور الرضا عن النفس الذي قد يدفعنا إلى السقوط في الأنا الاستعلائيّة المشلّة للمبادرات الإبداعيّة الفرديّة.
إن أول انطباع نطلقه عند سماعنا إلى عمل موسيقيّ، هو التساؤل حول خصوصيّته ومرجعيّته الثقافيّة الموسيقيّة، أي نطرح مباشرة قضية الهوية والانتماء باحثين بذلك عن المكونات الموسيقيّة التقليديّة وكثافة استعمالها في الأثر الموسيقي المعني بالدراسة. فما الذي نعنيه اليوم عندما نقول أن هذا العمل الموسيقيّ تراثيّ؟ وهل أن التساؤل يفضي في النهاية إلى نتائج إيجابيّة؟ هل علينا أن نطرح في أعمالنا الموسيقية أسئلة تتعلق بالهويّة وقيمها، أم نطرح أسئلة حول الوجود من خلال الإبداع؟ هل في الأمر خطورة عندما نكون غير أصيلين في إنتاجنا الموسيقي في وقتنا الحاضر؟
إن الأصالة الموسيقية لا تتمثل في تقليد القدماء بقصد الاعتراف بهم، بل في الاستفادة من أفكارهم وتجاربهم التي بإمكاننا، وعن طريقها بناء تعابير مستقبليّة جديدة. إن ما يهمّنا تأكيده في هذا المجال، هو أننا وعند محاكاتنا للأعمال الموسيقيّة التقليديّة نكون قد تحدثنا باسم الجماعة، أما إذا أنتجنا شيئا جديدا فإننا نتحدث باسم الفردانيّة المبتكرة، المبدعة الخلاّقة. لقد أظهرت التجربة الفكريّة أنه ليس من السهل أن نبتعد عن المقاربات الموسيقية التي تتخذ من الشكل دالا أساسيا، لأن التصوّر الثقافي يجعلنا أمام عقدة الهوية التي تحيدنا عن فكرة تجاوز المقاربات الشكلية. فعند حديثنا عن الإنتاج الموسيقي عموما، تعترضنا عدة مسائل، منها الخصوصيّات التي يمتاز بها العمل الموسيقي، أيْ شكله وليس مكوناته ومرجعياته الثقافية. فهذا التمشي الشكلي، من شأنه أن يفني أثار الإبداع الذي ينتجه الإنسان الموسيقي، كما أن التمشي الذي يقرّ باعترافه بالعولمة، هو كذلك لا يتناقض مع الاتجاه الشكلي الآخر الذي ينادي بالأصالة والهويّة.
لقد أصبح امتلاك تقنيات الفرجة والترفيه العالمي واجبا من واجبات الزعامة والسيادة، وبعد أن حقق الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة قفزة في التوحيد الوطني للمجالات المحليّة عبر “إبادة” اللهجات الجهوية، فإن الانتقال إلى الثقافة البصرية الجديدة هو الآن بصدد تحقيق قفزة أخرى وذلك من خلال التوحيد العالمي للمنظورات. لقد ساعدت الوسائل التكنولوجية الحديثة على زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي، وازدياد فرص التعرف على أساليب الحياة وأنماط السلوك والعادات التي تنتشر في مجتمعات أخرى سواء كانت أوروبية أو أمريكية أو آسيوية… كما ساهمت في خلق عادات جديدة قد تتناقض مع التقاليد والقيم السائدة في مجتمع معين. وبذلك تجد العديد من المجتمعات نفسها خاضعة بشكل واضح لتأثيرات وافدة عليها من الشمال الذي يملك قدرات تكنولوجية كبيرة في مجالي الاتصال والإعلام، تساعده على نشر هيمنته وثقافته وأفكاره وسلوكياته التي تبهر بها بقية الشعوب وتحاول التأثير فيها، بالرغم من عدم تلاؤمها مع تاريخها وموروثها الثقافي1. ولئن جاء تاريخ الفكر الغربي حافلا بالبحث في الصورة وعلاقتها بالعلم والسلوك والمجتمع والسياسة والإنتاج، فإن الخوض في هذه المسألة في وجهه العربي” يشبه البدعة في مجال الدراسة الأنتروبولوجية والأدبية والمعرفية، ويتسم بالمغامرة في مضمار بكر لا يزال يحتاج إلى الانفتاح المنهجي المطلوب وإلى التفاعل المعرفي الضروري”2.
لا يمكن لأي تعريف للتراث أو الهوية الموسيقية أن يسلم من النقد بحكم أن كل مساهمة نقدمها تبقى دوما غير مكتملة. لكن إذا لم ننف جزئيّا التقليد والتقليديّة والذاكرة، لا يمكن لنا أن نحقق الخيال والإبداع الموسيقي. إن النظر إلى المستقبل بروح منفتحة ترتكز على تراث موسيقي حيّ، يمثل رسالة تريد الحداثة أن تبلِّغها، بحيث تضع في اعتبارها كل الأبعاد الإنسانيّة. ولا يمكن للتراث الموسيقي أن يكون حيّا إلا إذا أعطيناه الفرصة بأن يكون كذاك، متجددا في موقع جدل وتأويل دائمين لا نتاج فكر أزلي جامد.