الكتب باللغة العربية
الهويّة والأصالة في الموسيقى العربيّة
ظلّت مباحث الهويّة الموسيقيّة في الفكر العربيّ من المواضيع التي لم تلق سبل التّناول من قبل المختصّين في الموسيقولوجيا بالرّغم من الجدل الذي حام حول إشكاليّة الهويّة العربيّة في علاقتها بالآخر الغربيّ طيلة أكثر من قرن، ومن دون أن نعلّل أسباب ذلك تاريخيّا وفكريّا، فإنّ التفكير في الهويّة الموسيقيّة يشكّل ضرورة ملحّة تفرضه التغيّرات الثقافيّة والسياسيّة التي يشهدها العالم خاصّة على إثر سقوط جدار برلين وإقامة جدار فلسطين من جهة، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر من جهة ثانية، وتداعيات كل ذلك على الفنون بصفة عامّة فكرا وممارسة وما أحدثته من شروخات فكريّة زعزعت الهويّات الثقافيّة في كلّ أصقاع العالم وما آلت إليه من اضطرابات إبداعيّة اخترقت مفاهيم ومقاصد الهويّات الموسيقيّة الشكلانيّة التقليديّة.
من ثمّ، حان الوقت بأن نتجاوز تلك الطروحات التقليديّة حول مفهميّة الهويّة الموسيقيّة باقتراح استمراريّة فكريّة منفتحة في كلّ الاتجاهات دون أفضليّة أو انتمائيّة فكريّة إقصائيّة خاصّة وأنّ هذه الهويّة هي أساسا قادرة على أن تندمج مع المتخيّل الفكريّ الذي يجمع بين التناقضات الإيديولوجيّة التي صنعها التّاريخ، لصالح هويّة يعقلها الفكر فيحدّد من خلالها انتماءه وانتسابه وتموقعه. غير أنّنا وفي كلّ مرّة نبحث عن هويّتنا تذهب هذه الهويّة من أمامنا. لماذا؟ لأنّها مفهوم مجرّد مجسّد، لا من خلال السّمع والبصر، بل من خلال البصيرة، آلة الفكر.
أنطلوجيا الفنون الغنائيّة الركحيّة في تونس بين ظاهرتي التثاقف والمثاقفة (1856-1998) دراسة تحليليّة موسيقيّة مشهديّة
كانت اختياراتنا في هذه الدراسة متجهة في سياق الجدل الذي يضع في تصوراته تقابل الآراء وتقاطع الفرضيات حول مفهميّة مفردتين هامتين، مرتبطة الواحدة بالأخرى ألا وهما “التثاقف” و”المثاقفة”. وقد أصبح من الواضح اليوم، أن مضمونية البحث في هذا الموضوع، تلتقي في تقاطع المتناقضات وتداخلها وتكاملها أحيانا، إلى جانب ما يفرضه تضافر وتفاعل مختلف الاختصاصات في شتى العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع والتاريخ والفنون الركحية والفنون الدرامية…وما يمنحه من إضافات من منظور الموسيقى والعلوم الموسيقية، حيث تتضامن جميعها من أجل البحث والتواصل والإبداع.
ولرفع تلك الإشكاليات المتضاربة، جاءت هذه الدراسة لبناء قاعدة أولية تطرح جدلية العلاقة بين مفهوم كل من المفردتين، من خلال التجارب الغنائية الركحية في تونس منذ سنة 1856 من حيث تطور مضامينها وتصوراتها الغنائية وأبعادها الإيديولوجية. وقد استوجب منا في هذا السياق التعمق والتأمل في الكثير من تلك التجارب، مع الالتزام بالحذر والدقة والإرادية، والتأكيد على أهمية الخصوصية الثقافية للتراث وتغيراته التاريخية. كل هذا، لن يمنعنا مستقبلا من إعادة النظر فيما قيل، باعتبار أن لكل بحث إثارة وولادة لبحث جديد.
تمجيد الموسيقولوجيا
إن الترجمة من أيّ لغة عالميّة إلى العربيّة تشكّل بوّابة تواصل إنسانيّ بين ثقافتين بعيدتين قريبتين في أسلوب العيش والتفكير. فكل ترجمة من شأنها ترتقي باللغة المترجم إليها وعلى إثرها تتوفّر من خلالها مفاهيم دقيقة تصاغ في مفردات مختصّة جديدة قابلة للاستثمار اللغويّ في اللغة المنقول إليها.
لعلّه من المفيد أن نشير أن محتوى هذا الكتاب تمّ عرضه في رومانيا سنتين (2008) في شكل محاضرة قدّمت بمناسبة إسناد الدكتوراه الفخريّة لـ”جون جاك ناتي” الذي تحدّث فيها عن آخر التيّارات الفكريّة والعلميّة في اختصاص الموسيقولوجيا والإثنوموسيقولوجيا والتحليل الموسيقيّ، وهي من بين المواضيع الهامّة التي تشغل اهتماماته حاليّا. لقد تمحورت مجمل التناولات والمقاربات التي خصّها بالدّرس حول؛ تاريخيّة تلك الاختصاصات واستراتيجيّاتها ومناهجها في البحث وتناقضاتها وتقاطعاتها أحيانا وطرقها التحليليّة ومنعطفاتها الفلسفيّة ومرجعيّاتها الإيديولوجيّة، كما تعرّض أيضا إلى أصحاب تلك التيّارات الفكريّة، من ذلك كتاباتهم وتصوّراتهم النظريّة والثقافيّة ونظرتهم لمجمل الاختصاصات ذات العلاقة بمجال العلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والفلسفة والأنتروبولوجيا والإستطيقا والبيداغوجيا والوجوديّة واللسانيّات والعلوم الثقافيّة والنقد الموسيقيّ…، من جهة، والعلوم المسمّاة بالصحيحة كعلم الصوت والموسيقى الإلكترونيّة والموسيقى الطيفيّة ومرتكزاتها وتفرعاتها العلميّة القائمة على “الحتميّة” من خلال الفيزياء والرياضيّات…، من جهة ثانية.
لذلك، يسجّل هذا المقال، وكما هو مبيّن، المراحل الهامّة التي قطعتها الموسيقولوجيا عبر تاريخها وعبر الأبحاث الأولى التي ساهمت في تطويرها. ولعلّ احتياجات الباحث إلى مختلف تلك المعارف لتفسير “ما هو موسيقيّ” من جهة، وما هو “فعل موسيقي” من جهة ثانية، فرض على “جون جاك ناتي” بأن يتساءل عن إمكانيّة أو عدم إمكانيّة التّوفّق لبعث مشروع كبير، يؤسّس لنظريّة تقوم على شموليّة البحث في اختصاص الموسيقولوجيا. وإن كان التساؤل يحقّق شرعيّة فكريّة للباحث من حيث الطّرح الإشكاليّ، فإن الإجابة عن سؤال كهذا يشكّل في حد ذاته صعوبة فكريّة ذاتيّة، قد لا نصل من خلالها إلى “حقيقة” مطلقة، بل بإمكاننا، ومن خلالها، تلمّس جزء من “الحقيقة” الظرفيّة، من ذلك كان السؤال؛ هل من آفاق لموسيقولوجيا شاملة؟
ومع إيماننا بقيمة هذا المبحث ومقارباته التي تهمّ الباحثين المختصّين في الموسيقى العربيّة بشكل عام، كانت ترجمة هذا المقال بالنسبة لدينا مسألة ضروريّة إن لم نقل مؤكّدة.